فصل: تفسير الآية رقم (174):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (174):

{يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174)}
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن الثوري، وسماه برهانا لان معه البرهان وهو المعجزة.
وقال مجاهد: البرهان هاهنا الحجة، والمعنى متقارب، فإن المعجزات حجته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والنور المنزل هو القرآن، عن الحسن، وسماه نورا لان به تتبين الأحكام ويهتدي به من الضلالة، فهو نور مبين، أي واضح بين.

.تفسير الآية رقم (175):

{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)}
قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ} أي بالقرآن عن معاصيه، وإذا اعتصموا بكتابه فقد اعتصموا به وبنبيه.
وقيل: {اعْتَصَمُوا بِهِ} أي بالله. والعصمة الامتناع، وقد تقدم {وَيَهْدِيهِمْ} أي وهو يهديهم، فأضمر هو ليدل على أن الكلام مقطوع مما قبله. {إِلَيْهِ} أي إلى ثوابه.
وقيل: إلى الحق ليعرفوه. {صِراطاً مُسْتَقِيماً} أي دينا مستقيما. و{صِراطاً} منصوب بإضمار فعل دل عليه {وَيَهْدِيهِمْ} التقدير، ويعرفهم صراطا مستقيما.
وقيل: هو مفعول ثان على تقدير، ويهديهم إلى ثوابه صراطا مستقيما.
وقيل: هو حال. والهاء في: {إِلَيْهِ} قيل: هي للقرآن، وقيل: للفضل، وقيل: للفضل والرحمة، لأنهما بمعنى الثواب.
وقيل: هي لله عز وجل على حذف المضاف كما تقدم من أن المعنى ويهديهم إلى ثوابه. أبو علي: الهاء راجعة إلى ما تقدم من اسم الله عز وجل، والمعنى ويهديهم إلى صراطه، فإذا جعلنا {صِراطاً مُسْتَقِيماً} نصبا على الحال كانت الحال من هذا المحذوف.
وفي قوله: {وَفَضْلٍ} دليل على أنه تعالى يتفضل على عباده بثوابه، إذ لو كان في مقابلة العمل لما كان فضلا. والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (176):

{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قال البراء بن عازب: هذه آخر آية نزلت من القرآن، كذا في كتاب مسلم.
وقيل: نزلت والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متجهز لحجة الوداع، ونزلت بسبب جابر، قال جابر ابن عبد الله: مرضت فأتاني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر يعوداني ماشيين، فأغمي علي، فتوضأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم صب علي من وضوئه فأفقت، فقلت: يا رسول الله كيف أقضي في مالي؟ فلم يرد علي شيئا حتى نزلت آية الميراث {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} رواه مسلم، وقال: آخر آية نزلت: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] وقد تقدم. ومضى في أول السورة الكلام في: {الْكَلالَةِ} مستوفى، وأن المراد بالاخوة هنا الاخوة للأب والام أو للأب وكان لجابر تسع أخوات.
الثانية: قوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} أي ليس له ولد ولا والد، فأكتفي بذكر أحدهما، قال الجرجاني: لفظ الولد ينطلق على الوالد والمولود، فالوالد يسمى، والدا لأنه ولد، والمولود يسمى ولدا لأنه ولد، كالذرية فإنها من ذرا ثم تطلق على المولود وعلى الوالد، قال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41].
الثالثة: والجمهور من العلماء من الصحابة والتابعين يجعلون الأخوات عصبة البنات وإن لم يكن معهن أخ، غير ابن عباس، فإنه كان لا يجعل الأخوات عصبة البنات، وإليه ذهب داود وطائفة، وحجتهم ظاهر قول الله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ} ولم يورث الأخت إلا إذا لم يكن للميت ولد، قالوا: ومعلوم أن الابنة من الولد، فوجب ألا ترث الأخت مع وجودها. وكان ابن الزبير يقول بقول ابن عباس في هذه المسألة حتى أخبره الأسود بن يزيد: أن معاذا قضى في بنت وأخت فجعل المال بينهما نصفين.
الرابعة: هذه الآية تسمى بآية الصيف، لأنها نزلت في زمن الصيف، قال عمر: إني والله لا أدع شيئا أهم إلي من أمر الكلالة، وقد سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها، حتى طعن بإصبعه في جنبي أو في صدري ثم قال: «يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء». وعنه رضي الله عنه قال: ثلاث لان يكون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهن أحب إلي من الدنيا وما فيها: الكلالة والربا والخلافة، خرجه ابن ماجه في سننه.
الخامسة: طعن بعض الرافضة بقول عمر: «والله لا أدع» الحديث.
السادسة: قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} قال الكسائي: المعنى يبين الله لكم لئلا تضلوا. قال أبو عبيد، فحدثت الكسائي بحديث رواه ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا يدعون أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجابة» فاستحسنه. قال النحاس: والمعنى عند أبي عبيد لئلا يوافق من الله إجابة، وهذا القول عند البصريين خطأ صراح، لأنهم لا يجيزون إضمار لا، والمعنى عندهم: يبين الله لكم كراهة أن تضلوا، ثم حذف، كما قال: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وكذا معنى حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي كراهية أن يوافق من الله إجابة. {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تقدم في غير موضع. والله أعلم تمت سورة النساء والحمد لله الذي وفق.

.سورة المائدة:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ رب يسر تفسير سورة المائدة بحول الله تعالى وقوته، وهي مدنية بإجماع، وروي أنها نزلت منصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الحديبية. وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال: لما رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الحديبية قال: «يا علي أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة ونعمت الفائدة». قال ابن العربي: هذا حديث موضوع لا يحل لمسلم اعتقاده، أما إنا نقول: سورة المائدة، ونعمت الفائدة فلا ناثره عن أحد ولكنه كلام حسن. وقال ابن عطية: وهذا عندي لا يشبه كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب».
ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع، ومنها ما أنزل عام الفتح وهو قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} [المائدة: 2] الآية. وكل ما أنزل من القرآن بعد هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو مدني، سواء نزل بالمدينة أو في سفر من الأسفار. وإنما يرسم بالمكي ما نزل قبل الهجرة. وقال أبو ميسرة: المائدة من آخر ما نزل ليس فيها منسوخ، وفيها ثمان عشرة فريضة ليست في غيرها، وهي: {الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3]، {وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ}، {وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]، {وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} [المائدة: 5] {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، وتمام الطهور {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38]، {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] إلى قوله: {عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ} [المائدة: 95] و{ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ 10} [المائدة: 103]. وقوله تعالى: {شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ 10} [المائدة: 106] الآية. قلت: وفريضة تاسعة عشرة وهي قوله عز وجل: {وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 58] ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة، أما ما جاء في سورة الجمعة فمخصوص بالجمعة، وهو في هذه السورة عام لجميع الصلوات. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال: «يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها» ونحوه عن عائشة رضي الله عنها موقوفا، قال جبير بن نفير: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت: هل تقرأ سورة المائدة؟ فقلت: نعم، فقالت: فإنها من آخر ما أنزل الله، فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرموه. وقال الشعبي: لم ينسخ من هذه السورة إلا قوله: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ} [المائدة: 2] الآية. وقال بعضهم: نسخ منها {أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106].

.تفسير الآية رقم (1):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)}
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} قال علقمة: كل ما في القرآن {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهو مدني و{يا أَيُّهَا النَّاسُ} [النساء: 1] فهو مكي، وهذا خرج على الأكثر، وقد تقدم. وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام، فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأول: الامر بالوفاء بالعقود، الثاني: تحليل بهيمة الانعام، الثالث- استثناء ما يلي بعد ذلك، الرابع- استثناء حال الإحرام فيما يصاد، الخامس- ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.
وحكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا له: أيها الحكيم أعمل لنا مثل هذا القرآن فقال: نعم! أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد.
الثانية: قوله تعالى: {أَوْفُوا} يقال: وفي وأوفى لغتان! قال الله تعالى: {وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 111]، وقال تعالى: {وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] وقال الشاعر:
أما ابن طوق فقد أوفى بذمته ** كما وفى بقلاص النجم حاديها

فجمع بين اللغتين. {بِالْعُقُودِ} العقود الربوط، واحدها عقد، يقال: عقدت العهد والحبل، وعقدت العسل فهو يستعمل في المعاني والأجسام، قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ** شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا

فأمر الله سبحانه بالوفاء بالعقود، قال الحسن: يعني بذلك عقود الدين وهي ما عقده المرء على نفسه، من بيع وشراء وإجارة وكراء ومناكحة وطلاق ومزارعة ومصالحة وتمليك وتخيير وعتق وتدبير وغير ذلك من الأمور، ما كان ذلك غير خارج عن الشريعة، وكذلك ما عقده على نفسه لله من الطاعات، كالحج والصيام والاعتكاف والقيام والنذر وما أشبه ذلك من طاعات ملة الإسلام. وأما نذر المباح فلا يلزم بإجماع من الامة، قال ابن العربي. ثم قيل: إن الآية نزلت في أهل الكتاب، لقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]. قال ابن جريج: هو خاص بأهل الكتاب وفيهم نزلت.
وقيل: هي عامة وهو الصحيح، فإن لفظ المؤمنين يعم مؤمني أهل الكتاب، لأن بينهم وبين الله عقدا في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنهم مأمورون بذلك في قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وغير موضع. قال ابن عباس: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} معناه بما أحل وبما حرم وبما فرض وبما حد في جميع الأشياء، وكذلك قال مجاهد وغيره.
وقال ابن شهاب:
قرأت كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره: هذا بيان للناس من الله ورسوله {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فكتب الآيات فيها إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} [المائدة: 4].
وقال الزجاج: المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض. وهذا كله راجع إلى القول بالعموم وهو الصحيح في الباب، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المؤمنون عند شروطهم» وقال: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط» فبين أن الشرط أو العقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله أي دين الله، فإن ظهر فيها ما يخالف رد، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد». ذكر ابن إسحاق قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان- لشرفه ونسبه- فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وهو الذي قال فيه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت». وهذا الحلف هو المعنى المراد في قوله عليه السلام: «وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة» لأنه موافق للشرع إذ أمر بالانتصاف من الظالم، فأما ما كان من عهودهم الفاسدة وعقودهم الباطلة على الظلم والغارات فقد هدمه الإسلام والحمد لله. قال ابن إسحاق: تحامل الوليد بن عتبة على الحسين ابن علي في مال له- لسلطان الوليد، فإنه كان أميرا على المدينة- فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن بسيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم لأدعون بحلف الفضول. قال عبد الله بن الزبير: وأنا أحلف بالله لئن دعاني لآخذن بسيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعا، وبلغت المسور بن مخرمة فقال مثل ذلك، وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك، فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه.
الثالثة: قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} الخطاب لكل من ألتزم الايمان على وجهه وكماله، وكانت للعرب سنن في الأنعام من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، يأتي بيانها، فنزلت هذه الآية رافعة لتلك الأوهام الخيالية، والآراء الفاسدة الباطلية. واختلف في معنى: {بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} والبهيمة اسم لكل ذي أربع، سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها، ومنه باب مبهم أي مغلق، وليل بهيم، وبهمة للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له. و{الْأَنْعامِ}: الإبل والبقر والغنم، سميت بذلك للين مشيها، قال الله تعالى: {وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَمَنافِعُ} [النحل: 5] إلى قوله: {وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ} [النحل: 7]، وقال تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً} [الأنعام: 142] يعني كبارا وصغارا، ثم بينها فقال: {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ} [الأنعام: 143] إلى قوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ} [البقرة: 133] وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها} [النحل: 80] يعني الغنم {وَأَوْبارِها} يعني الإبل {وَأَشْعارِها} يعني المعز، فهذه ثلاثة أدلة تنبئ عن تضمن اسم الأنعام لهذه الأجناس، الإبل والبقر والغنم، وهو قول ابن عباس والحسن. قال الهروي: وإذا قيل النعم فهو الإبل خاصة.
وقال الطبري: وقال قوم {بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر وغير ذلك. وذكره غير الطبري عن السدي والربيع وقتادة والضحاك، كأنه قال: أحلت لكم الانعام، فأضيف الجنس إلى أخص منه. قال ابن عطية: وهذا قول حسن، وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج، وما انضاف إليها من سائر الحيوان يقال له أنعام بمجموعة معها، وكان المفترس كالأسد وكل ذي ناب خارج عن حد الانعام، فبهيمة الأنعام هي الراعي من ذوات الأربع.
قلت: فعلى هذا يدخل فيها ذوات الحوافر لأنها راعية غير مفترسة وليس كذلك، لأن الله تعالى قال: {وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَمَنافِعُ} [النحل: 5] ثم عطف عليها قوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ} [النحل: 8] فلما استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام دل على أنها ليست منها، والله أعلم وقيل: {بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} ما لم يكن صيدا، لأن الصيد يسمى وحشا لا بهيمة، وهذا راجع إلى القول الأول.
وروى عن عبد الله بن عمر أنه قال: {بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} الأجنة التي تخرج عند الذبح من بطون الأمهات، فهي تؤكل دون ذكاة، وقاله ابن عباس وفيه بعد، لأن الله تعالى قال: {إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} وليس في الأجنة ما يستثنى، قال مالك: ذكاة الذبيحة ذكاة لجنينها إذا لم يدرك حيا وكان قد نبت شعره وتم خلقه، فإن لم يتم خلقه ولم ينبت شعره لم يؤكل إلا أن يدرك حيا فيذكى، وإن بادروا إلى تذكيته فمات بنفسه، فقيل: هو ذكي.
وقيل: ليس بذكي، وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
الرابعة: قوله تعالى: {إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} أي يقرأ عليكم في القرآن والسنة من قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وقوله عليه الصلاة والسلام: «وكل ذي ناب من السباع حرام». فإن قيل: الذي يتلى علينا الكتاب ليس السنة، قلنا: كل سنة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهي من كتاب الله، والدليل عليه أمران: أحدهما: حديث العسيف: «لأقضين بينكما بكتاب الله» والرجم ليس منصوصا في كتاب الله.
الثاني: حديث ابن مسعود: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في كتاب الله، الحديث. وسيأتي في سورة الحشر. ويحتمل {إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} الآن أو {ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} فيما بعد من مستقبل الزمان على لسان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكون فيه دليل على جواز تأخير البيان عن وقت لا يفتقر فيه إلى تعجيل الحاجة.
الخامسة: قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} أي ما كان صيدا فهو حلال في الإحلال دون الإحرام، وما لم يكن صيدا فهو حلال في الحالين. واختلف النحاة في: {إِلَّا ما يُتْلى} هل هو استثناء أو لا؟ فقال البصريون: هو استثناء من {بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} و{غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} استثناء آخر أيضا منه، فالاستثناء ان جميعا من قوله: {بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} وهي المستثنى منها، التقدير: إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون، بخلاف قوله: {إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ} [الحجر: 58- 59] على ما يأتي.
وقيل: هو مستثنى مما يليه من الاستثناء، فيصير بمنزلة قوله عز وجل: {إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام، لأنه مستثنى من المحظور إذ كان قوله تعالى: {إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ}
مستثنى من الإباحة، وهذا وجه ساقط، فإذا معناه أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد. ويجوز أن يكون معناه أيضا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم. وأجاز الفراء أن يكون {إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} في موضع رفع على البدل على أن يعطف بإلا كما يعطف بلا، ولا يجيزه البصريون إلا في النكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو جاء القوم إلا زيد. والنصب عنده بأن {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} نصب على الحال مما في: {أَوْفُوا}، قال الأخفش: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد.
وقال غيره: حال من الكاف والميم في: {لَكُمْ} والتقدير: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد. ثم قيل: يجوز أن يرجع الإحلال إلى الناس، أي لا تحلوا الصيد في حال الإحرام، ويجوز أن يرجع إلى الله تعالى أي أحللت لكم البهيمة إلا ما كان صيدا في وقت الإحرام، كما تقول: أحللت لك كذا غير مبيح لك يوم الجمعة. فإذا قلت يرجع إلى الناس فالمعنى: غير محلين الصيد، فحذفت النون تخفيفا.
السادسة: قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} يعني الإحرام بالحج والعمرة، يقال: رجل حرام وقوم حرم إذا أحرموا بالحج، ومنه قول الشاعر:
فقلت لها فيئي إليك فإنني ** حرام وأني بعد ذاك لبيب

أي ملب، وسمي ذلك إحراما لما يحرمه من دخل فيه على نفسه من النساء والطيب وغيرهما. ويقال: أحرم دخل في الحرم، فيحرم صيد الحرم أيضا. وقرأ الحسن وإبراهيم ويحيى بن وثاب {حرم} بسكون الراء، وهي لغة تميمية يقولون في رسل: رسل وفي كتب كتب ونحوه.
السابعة: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ} تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب، أي فأنت يا محمد السامع لنسخ تلك التي عهدت من أحكامهم تنبه، فإن الذي هو مالك الكل {يَحْكُمُ ما يُرِيدُ} {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41] يشرع ما يشاء كما يشاء.